فن وثقافة
0
أدونيس يواصل مهاجمة الربيع العربى
محمد شبلنشرت جريدة الحياة اللندنية مقال للشاعر العربى الكبير أدونيس تحت عنوان ”مقدّمة لفهرس سياسى آخر” يواصل فيها الشاعر موقفه الأول الذى لم يتغير وهو الهجوم على الربيع العربى.
يقول أدونيس فى مقاله ”حتّى الآن، حقّقت «ثورات الرّبيع العربيّ» المنجَزات التّالية:
أوّلاً ـ وسّعَت حدود هذا «الربيع» فصار الآن إسلاميّاً أيضاً.
ثانياً ـ كانت الغالبيّةُ الكبرى من سكّان العالم العربى فقراء، عاطلين من العمل، أمّيين... إلخ. اليوم صارت أكثر فقراً، وبطالةً، وجهلاً.
ثالثاً ـ كانت الغالبيّةُ أكثرَ ميلاً للكفاح من أجل التقدّم التحرّر، وهى اليوم، على العكس، أكثر ميلاً للخضوع إلى «عقليّة» التخلّف والتراجع. تركيا المثل الأوّل. السودان مثلٌ آخر.
رابعاً ـ كان العرب أكثرَ سيطرةً على ذواتهم وأدواتهم وثرواتهم، فصاروا اليوم أكثر قرباً إلى ما يناقض هذا كلّه. صارت «ذاتُهم» لغيرهم، إذا تكلّمنا بلغة الفارابي: صاروا «أدواتٍ» و «آلات».
خامساً ـ الحضور العربيّ، اليوم، فى العالم لا يقوم على التفرُّد العلمى أو التّقنى أو الأخلاقيّ، وإنّما يقوم، بالأحرى، على «الثّروات» والفضاء الاستراتيجيّ، والعدد السكّانيّ.
سادساً ـ أكّدَت «ثورات الربيع العربيّ» أنّها «تهديمٌ ذاتيّ» و «تبعيّة» شبه عمياء. بحيث بدا، تاريخياً، أنّ العالم العربى ليس موجوداً على خريطة العالم إلاّ بوصفه «يأكل بعضُه بعضاً» وبوصفه «تابعاً»، وبوصفه هوَساً سلطويّاً لا يترك أى مجالٍ حقيقى لحقوق الإنسان الفرد وحرّيّاته. ولا مكانَ فيه إلاّ لهذا الثّنائيّ: الآمِر والمأمور، المالِك والمملوك، السيّد والعبد.
يتمثّل هذا «التّهديمُ الذّاتيّ» وهذه «التّبَعيّة» فى مصير القضيّة الكبرى والرمز الأكبر: فلسطين. فقد هُمِّشَت هنا، وأُهمِلَت هناك، وأُلغِيَتْ هنالك.
سابعاً ـ أكدَتْ هذه الثورات، على رغم هذا كلِّه، أنّ العالَم العربى خزّانٌ بشرى عظيمٌ للطّاقات الإنسانيّة الفرديّة الخلاّقة فى جميع الميادين. وأنّ هذه الطّاقات تتفوّق على أقرانها، أحياناً، فى مختلف بلدان العالم. لكن لا سبيل لها، لكى تحيا بحرّيّة إلاّ الهجرة: كأنّها، على نحْوٍ مفارقٍ، لا «تتعرّب» ما لم «تتغرّب».
والفاجع فى هذا الأمر أنّها ليست معياراً فى التقدّم أو التّخلّف. المعيار سياسيّ- اجتماعيّ- اقتصاديّ، وهو، إذاً، فى «المؤسّسات» و «الأنظمة».
والمثال الصارخ على ذلك لبنان وسورية.
هل نقول:
انتهى كلُّ شيء،
ولم يبدأ أى شيء.
هل نقول:
ما أشقى بشراً
لا يقدرون أن يعملوا إلاّ بشفاههم،
ولا يقدرون أن يقرأوا إلاّ بصواريخهم.
*
وأنت أيّها «الربيع «العربيّ» الخاص»، من أين لك
هذا الظلّ الوحشيّ.
تَعانَقَ العالمُ تحت نوافذك،
قال: كلّ شيء سيكون مختلفاً. وها هو، إذاً، هذا «الاختلاف»:
نساء تُباع، بشرٌ يُذبَحون. أسواقٌ تُدَمَّر وتُنهَب. متاحفُ تُسرَق وتُباعُ. مدنٌ تُسَوّى بالأرض ـ مآثرَ وعمارات.
انهيارٌ يبتلع الفضاءَ العربيّ:
أهذا، إذاً، أنت، أيُّها «الرّبيع»؟
أسّسْتَ الحاضرَ العربى على أساسَين: قاطِعِ رأسٍ، ورأسٍ مقطوع.
المالُ والقَتْلُ حجَرا هذه الطّاحونة البدائيّة الحديثة:
الحَنْجَلةُ الثّوريّة، والعنفُ ضدّ الإنسان وحقوقه وإبداعاته،
معاً فى سريرٍ واحد.
دمُ الإنسان يُعبِّد الطّريق. القتلُ يرسم الإشاراتِ والاتّجاهات.
السّماءُ تتمدّد على الوسائد فى مُخَيَّمات الخائبين، المُهَجَّرين، الذين يتسوّلون « ضيافةَ « الأمم « الصّديقة «، « الراعية «.
أهذا، إذاً، أنتَ أيُّها « الرّبيع «؟
*
أتاح هذا « الرّبيع العربى الخاصّ» للتجربة الحيّة أن تترك أوراقاً يُعجبنى منها، على الأخصّ، تلك التى تتدحرج فى الشّوارع مع الغُبار:
ورقة ـ 1:
نظنّ أنّ مدناً عربيّةً كثيرة تتحوّل إلى مجرّد كلماتٍ وذكرياتٍ، ورايات.
ورقة ـ 2:
ليس لماضٍ ينهض على القبور،
إلاّ مستقبلٌ ينهض على الموتى.
ورقة ـ 3:
الحرُّ هو وحده الذى يقدر أن يحرّر غيرَه.
تحرّرْ، إذاً، قبل أن تدّعى التّحرير.
ورقة ـ 4:
لا تفعل كغيرك: يكتب كتاباً وهو لا يعرف حتى أن يقرأ؛
أو يقرأ كتاباً وهو لا يعرف حتّى أن يكتب.
ورقة ـ 5:
الفردُ العربى «مُثبَتٌ» بوصفه فرداً، كأى شيء ماديّ. لكنّه ذاتيّاً
«ممحوٌّ»، لأنّه، فى ذاته، ليس حرّاً: لا رأى له وليس مستقلاًّ
ورقة ـ 6:
ليست الفكرة، أيّاً كانت، لكى يتشَرْنَق الإنسانُ داخلَها، بل لكى تفتح له طرُقَ التّواصُل مع الآخر، ومع الواقع.
ورقة ـ 7 :
يعيش الإنسان العربى دائماً فى أحداثٍ يفاجئُهُ بها العالم، فمتى يعيش دائماً فى أفكارٍ تفاجئ العالم؟
ورقة ـ 8 :
قلّما يشقّ العربى طريقه فى حقل الإبداع إلاّ فى أرضٍ غيرِ عربيّة.
هل العروبةُ الحقيقيّةُ هى أن «تتغرّب»؟
ورقة ـ 9:
«الغرب» يبتكر الحقائق،
و «العرَبُ» يستخدمونها.
ورقة ـ 10:
طويلاً، كنّا نبحث عن الفريد ولكنّنا لم نكن نجد إلاّ المُتَشابِه.
ورقة ـ 11 :
نعم. العربى كمثل غيره شجرة هو أيضاً. غير أننا ننسى دائماً أن نسأل:
ألهذه الشّجرة ظلٌّ وما هو؟ ألها ثمرةٌ وما هي؟
ورقة ـ 12:
الوجه هو المكان الذى يتفتّح فيه الكون كلُّه كمثل وردةٍ تتفتّح.
ورقة ـ 13:
نَهَبَ ليلُ الثّورة نهارَها.
ورقة ـ 14:
أن تُمسِكَ بالجناح، أو تُمجِّد طيرانه،
لا يعنى بالضرورة أنّك أصبحتَ جزءاً من الأفق.
ورقة ـ 15:
جاران عدوّان، كلٌّ منهما يمارس المِهنةَ ذاتها:
صَيْد البشر بصُنّارةٍ ذرّيّة.
إنّه زمنُنا:
القلبُ فيه للآلة،
وللإنسانِ الدّماغ الآليّ.
إنّه زمنُنا:
كلماتٌ تتبطّنُ سيوفاً تتبطّن أجساماً ممزَّقة.
وما الفرق هنا
بين حرف الكلمة وحرْفِ السّيف؟
ورقة ـ 16:
كان «الرّبيع العربيّ» مِسباراً يكشف عن طبقات الوعي. السّلطةُ هي
نواةُ هذا الوعي. السّلطة التى تحوِّلُ الوردةَ إلى قنبلة، والعصفورَ
إلى لغم، والعسلَ إلى سُمّ، والسّمَّ إلى عسل.
إنّها السّلطةُ ـ الهاوية: ضدَّ الإنسان، وضدّ الثّقافة، وضدَّ الحياة.
«الاستعمارُ من داخِل»: ظاهرةٌ تفسِّر آليّةَ هذه السّلطة، خصوصاً في
انقيادها الكامل للاستعمار الخارجيّ.
صار هَدمُ الإنسان مزدوجاً: مِن داخِلٍ، ومن خارجٍ فى آنٍ معاً.
وهكذا لبِس الاستبدادُ، فى مختلف أشكاله، لَبوسَ الثّقافة العربيّة.
ورقة ـ 17 :
الغائب الذى يُناضِل العرَبُ من أجل حضوره، يزدادُ غياباً.
لماذا ؟ وما السرّ؟
ورقة ـ 18 :
لا تَسَلْ عنه. إنّه شخصٌ لا يملك شيئاً إلاّ موهبةَ الهبوط.
هكذا يريد أن يهبطَ دائماً إلى أدنى فأدنى،
ظنّاً منه أنّه يتغلّب على عدوِّه،
الذى يصعد دائماً إلى أعلى فأعلى.
ورقة ـ 19:
لا تَسَلْ عنه. إنّه عائشٌ على الأمل بتحويل جذر الوردة البيضاء إلى مسمارٍ أحمر.
ورقة ـ 20 :
معك الحقّ أيُّها الضّوء:
أن تذوبَ فى الشّمعة التى تذوبُ فيك.
ورقة ـ 21:
وداعاً صفصافتى الجميلة الأخيرة:
قامتُكِ تجرُّ وراءها ذيولَ الهواء.
ورقة ـ 22 :
أسألُكَ أيُّها الفضاء:
هل تعرف مَن وضَع أوّلاً قدمَيه على عتبة بيتي:
أهى الشّمس، أم هو الليل؟
ورقة ـ 23:
حول رأسٍ مقطوعٍ
يجلس كرسى ينتظر مَن يجلس عليه.
بعد، لم تَحن السّاعة.
ورقة ـ 24 :
أمسِ،
استيقَظَتِ الشّمس كما كان مُنتَظَراً،
غير أنّها لم تستَطِعْ أن تفعلَ شيئاً
ضدّ الغُبارِ الذى كان يغمر الفضاء.
اكتَفَتْ بأن تؤكِّد:
رئةُ الفجر فى هذا الزّمَنِ العربيّ
مليئةٌ بهواء المَوْتى.
كانت الأرضُ تضعُ أذنيها بين ثدْيَى أمِّها الشّمس،
وشُبِّهَ لي، فيما أنظر إليها،
أنّها كانت تقولُ لها هامِسةً:
ربّما يعرف الجميعُ بؤسَ الزَّبد،
لكن، قولى أيّتُها الأمّ،
مَن يعرف حقّاً بؤسَ الماء؟