تقارير وتحقيقات
إنقلاب عسكرى أم تصحيح مسار للثورة.. ماذا يحدث في السودان ؟
كتب: عماد عنانأعلن رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، في بيان له ظهر اليوم، الإثنين 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، إعلان حالة الطوارئ بالبلاد، وحل مجلس السيادة الانتقالي، ومجلس الوزراء، وتجميد عمل لجنة التمكين، وإعفاء وكالات الوزارات والمدراء، وتكليف المؤسسة العسكرية بإدارة المرحلة الحالية لحين إجراء انتخابات (لم تحدد بعد).
تأتي تلك التحركات بعد ساعات قليلة من اعتقال الجيش السوداني، رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، وعدد كبير من وزراء حكومته والعديد من المسؤولين ورؤساء الأحزاب السياسية وقادة المكونات المدنية، في خطوة وصفها سياسيون بأنها "انقلاب عسكري كامل الدسم" وإن لم يتم الإعلان عنه بشكل رسمي.
وزارة الإعلام والثقافة السودانية على صفحتها على فيس بوك قالت إن حمدوك أقتيد إلى مكان مجهول بعد رفضه إصدار بيان مؤيد "للإنقلاب"، فيما فرضت قوات الأمن كامل السيطرة على مباني الإذاعة والتلفزيون وبعض الصحف، فضلا عن تمركزات مسلحة على الشوارع والميادين العامة، بجانب قطع الإنترنت ووسائل الاتصال، الأمر الذي عزل الخرطوم عزلا كاملا عن بقية ولايات البلاد.
دعوات للحشد أطلقتها القوى الثورية لحماية مكتسبات الثورة والحيلولة دون سيطرة العسكر على السلطة مرة أخرى، في مواجهة استمرار اعتصام محيط القصر الرئاسي الداعم لقرارات البرهان، فيما بثت منصات التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام العديد من المقاطع حول مناوشات بين أنصار تلك الإجراءات ومعارضيها، فيما يتجمع محتجون في محيط القيادة العامة رفضًا لما حدث، وسط سماع إطلاق للرصاص المطاطي والحي من قبل الجيش وحالات كر وفر، وفق نشطاء ماذا يحدث .؟
البداية كانت في بيان أصدره "تجمع المهنيين السودانيين"، فجر اليوم، قال فيه: "تتوارد الأنباء عن تحرك عسكري يهدف للاستيلاء على السلطة، وهو ما يعني عودتنا للحلقة الشريرة من حكم التسلط والقمع والإرهاب، وتقويض ما انتزعه شعبنا عبر نضالاته وتضحياته في ثورة ديسمبر المجيدة".
البيان الذي نشره التجمع على صفحته على فيس بوك ناشد "لجماهير الشعب السوداني وقواه الثورية ولجان المقاومة في الأحياء بكل المدن والقرى والفرقان، للخروج للشوارع واحتلالها تماماً، والتجهيز لمقاومة أي انقلاب عسكري بغض النظر عن القوى التي تقف خلفه".
وبعد دقائق معدودة من هذا البيان نقلت "رويترز" عن مصادر إعلامية سودانية، قيام قوة عسكرية بمحاصرة منزل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، ووضعه قيد الإقامة الجبرية، تزامن ذلك مع قطع خدمة الإنترنت والاتصالات، مع ورود أنباء عن حملة اعتقالات طالت رموز سياسية وزعماء لكيانات حزبية وثورية.
وفي أول استجابة شعبية لنداء الاحتشاد ضد تلك الإجراءات، قطع محتجون عدداً من شوارع الخرطوم بالإطارات المشتعلة، رفضاً للانقلاب العسكري، فيما أعلن الحزب "الشيوعي السوداني" أن ما حدث هو "انقلاب عسكري كامل الدسم بقيادة السيد البرهان ومجموعته وتم اعتقال عدد من القيادات السياسية".، موجها رسالة لكل القوى الحية وكل القوى التي تقف مع السلطة المدنية كاملة "إعلان الإضراب السياسي والعصيان المدني حتى هزيمة هذا الانقلاب" ونقلا عن مصدر سوداني سياسي، ذكرت وكالة "الأناضول" أن الاعتقالات استهدفت 3 أحزاب في الائتلاف الحاكم بالسودان، وهي "البعث العربي الاشتراكي"، و"التجمع الاتحادي" و"المؤتمر السوداني".، فيما تحدثت "فرانس برس"، نقلاً عن مصدر حكومي، عن اعتقال مسلحين لم تُعرف هويتهم، عدداً من المسؤولين في السلطة التنفيذية.
كما نقلت "رويترز" عن شهود عيان انتشار الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية في شوارع العاصمة الخرطوم، وتقييد حركة المدنيين، فضلا عن إغلاق مطار الخرطوم وتعليق الرحلات الدولية، فيما خرج المئات من المتظاهرن يحملون علم البلاد ويحرقون إطارات في أنحاء مختلفة من المدينة، مرددين هتافات ضد العسكر وأخرى منددة بالانقلاب، فيما شدًد الجميع على التزام السلمية.
دعوات لحماية الثورة دعت بعض الأحزاب والقوى السياسية الشعب السوداني للاحتشاد ومناهضة عملية الانقلاب والدفاع عن ثورتهم ومكتسباتها والتي كان على رأسها مدنية الدولة والانتقال الديمقراطي، البداية كانت مع حزب "الأمة" الذي دان أي انقلاب وأيا كان مصدره ومن يقف خلفه، وفق بيان نشره على فيس بوك دعا خلاله جماهير الشعب السودان "للخروج فوراً لمقاومة الانقلاب الذي يجري الآن".
كذلك دعا حزب "المؤتمر" السودانيين في كافة أنحاء البلاد للخروج إلى الشوارع فوراً، مهيباً – في بيان له- "بقوى الثورة جميعاً ولجان المقاومة في كافة أحياء وقرى وأرياف ومحليات ومدن السودان، للاصطفاف صفاً واحداً منيعاً، و"مقاومة هذا الانقلاب العسكري كيفما تسربل وتحت أي مسمّى كان، أو من الذي يقف خلفه".
من جانبها أعلنت نقابة أطباء السودان الإضراب السياسي العام في كل مستشفيات البلاد ما عدا الحالات الطارئة، والانسحاب من كلّ المستشفيات العسكرية، وفي منشور لها على منصات التواصل الاجتماعي قالت "ها نحن نعايش انقلاب المكون العسكري على السلطة المدنية، ولذلك نحن في المكتب الموحد للأطباء نطالب كل القطاعات المهنية ولجان المقاومة بالتصعيد الثوري والخروج إلى الشارع، وإعلان الإضراب السياسي العام والعصيان المدني".
الموقف ذاته اتخذه تجمع المصرفيين السودانيين الذي أعلن "دخول كلّ موظفي وعمال القطاع المصرفي، ومنذ اليوم الاثنين 25/10/2021، في إضراب سياسي وعصيان مدني مفتوح، وذلك حتى عودة الروح لوطننا روح الحرية والديمقراطية والمدنية الاتية قريباً بلا ريب".، مضيفًا "سيقوم التجمع بمتابعة التطورات وإنزال التوجيهات اللازمة أولاً بأول.
وفي حال انقطاع الانترنت والاتصالات، سيتم تفعيل قنوات اتصال بديلة جاهزة مسبقاً". كما أعلنت اللجنة التسييرية لاتحاد الطيارين السودانيين الإضراب العام والعصيان المدني، وقالت في بيان لها: "ندعو جميع عضويتنا من الطيارين والعاملين في حقل الطيران وجماهير شعبنا للخروج إلى الشوارع، وحماية ثورة الشعب السوداني، رداً على الانقلاب العسكري للجنة الأمنية للنظام البائد الخائنة لثورة ديسمبر المجيدة".
أما رئيس الوزراء المقيد جبريًا والمحتجز في جهة غير معلومة حتى كتابة هذه السطور فطالب في رسالة له من مقر إقامته السودانيين التمسك بالسلمية واحتلال الشوارع للدفاع عن ثورتهم، وفق ما ذكرته وزارة الثقافة والإعلام السودانية التي كانت قد ذكرت في وقت سابق أن حمدوك يواجه ضغوطات قوية من الجيش لإصدار بيان مؤيد للللانقلاب
ماذا يريد العسكر؟
بصرف النظر عن توصيف ما حدث، كونه "انقلاب عسكر كامل الدسم" أو "تصحيح مسار للثورة" كما يردد البرهان، أو حتى "قرصة ودن" للمدنيين، فإن جنرالات السودان يهدفون من وراء تلك الإجراءات استمرارية بقائهم في السلطة قدر الإمكان، عبر تحييد المكون المدني الثوري المشارك في السلطة في الفترة الحالية.
يفترض أن تنتهي فترة ترأس المكون العسكري للسلطة الانتقالية نهاية نوفمبر/تشرين الثاني القادم، وفق الوثيقة الدستورية الموقعة في منتصف أغسطس/آب 2019، وتسليم الحكم للمكون المدني، ترجمة لمسار الانتقال الديمقراطي، وهو ما يعني تخلي العسكر عن رأس هرم السلطة، وهو ما يرفضه الجنرالات شكلا ومضمونًا.
يعلم العسكر أن المدنيين والقوى الثورية هي العائق الأبرز أمام بقائهم في السلطة، وسط مطالب مستمرة بتنحي العسكريين عن الحكم والعودة لثكناتهم، ومن ثم كان لابد من التخلص من هذا المعرقل الأساسي، عبر استراتيجيات عدة، أبرزها تشويه صورته جماهيريًا من خلال تحميله –وحده- مسئولية تدني الأوضاع الداخلية.
وتلاقت مصالح الجنرالات مع القوى المستبعدة من التشاركية السلطوية، وبقايا فلول الإنقاذ، تزامنًا مع دعم خارجي من جبهة الثورات المضادة، مستغلة فشل الحكومة الحالية في الوفاء بالحد الأدنى من أحلام الجماهير، بجانب ما تعاني منه من تشرذم وتفتت وانقسامات، أنهكت قواها وصدرت صورة مشوهة للشارع، كل هذا صب في النهاية في صالح الأجندة العسكرية ومن ثم كان المشهد الحالي المتوقع من قبل الكثيرين، حتى من مسئولين داخل السلطة وهو ما تترجمه تصريحاتهم وتحذيراتهم المتتالية خلال الفترة الماضية.
ليست مفاجأة المتابع للمشهد الداخلي في السودان خلال الشهرين الماضيين تحديدًا يرى أن ما حدث اليوم لم يكن مفاجئًا، إذ تم التمهيد له مسبقًا في ضوء عدد من الشواهد والمؤشرات التي كشفت وبشكل كبير عن رغبة العسكر في الانفراد بالسلطة والإطاحة بالمدنيين والانقلاب على الوثيقة الدستورية.
البداية كانت مع التجاهل التام والتواطؤ الفاضح حيال احتجاجات الشرق الخانقة للاقتصاد السوداني، في ضوء التناغم بين قبائل البجا (التي أعلنت دعمها لإجراءات الجيش) وبعض جنرالات المكون العسكري مرورًا بتبني فكرة "توسيع الحاضنة السياسية" والعودة للمنصة، لضرب الحاضنة الثورية للحكومة الحالية (قوى الحرية والتغيير) في مقتل، وإشراك بعض القوى الأخرى في المسار السياسي، بعضها من فلول الإنقاذ والجماعات المسلحة. مرورًا بفتح الباب على مصراعيه أمام اعتصام القصر، حيث فتح الطريق وتوفير كل سبل الدعم والحماية، بل السماح بتدشين منصة ثابتة لرفع شعارات الإطاحة بالحكومة، وفي المقابل استهداف أي تظاهرات أخرى مؤيدة لمدنية الدولة ومطالبة بتسليم السلطة للمكون المدني، وصولا إلى التصريحات المباشرة الصادرة عن البرهان وحميدتي بشأن تحميل المدنيين مسئولية تردي الأوضاع والتلميح لعدم ترك الجيش للسلطة.
اللافت للنظر أن تلك المؤشرات التي تمهد لتفرد العسكر بالسلطة والإطاحة بالمدنيين، كانت واضحة للجميع، حتى لدى رئيس الحكومة ووزراءه وحاضنته السياسية،ولطالما حذرت منه القوى الثورية والنخب السياسية، ومع ذلك لم يتم التحرك أو اتخاذ أي مواقف استباقية لما حدث، رغم ما بعثته محاولة الانقلاب التي أجهضت قبل عدة أسابيع، والتي كانت جرس إنذار حقيقي للحكومة ، من رسائل ودلالات، لكن يبدوا أنها لم تقرأها جيدًا. كيف نقرأ ما حدث؟ ميدانيًا.. لابد من الإشارة إلى حالة الانقسام التي يعاني منها الشارع السوداني المدني حيال ما حدث، إذ نجح العسكر ومعهم المدنيين (بفشلهم في إدارة المرحلة) في تفتيت اللحمة الوطنية التي كانت تتميز بها ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، وعليه ليس من المستغرب التراشق الحادث بين أنصار مكوني الحرية والتغيير، (المجلس المركزي والمنشقين) وفق ما تناقلته وسائل إعلام ومنصات السوشيال ميديا.
ووصل الانقسام مداه مع تأييد بعض المسئولين في الحكومة والمحسوبين على التيار المدني لفكرة إقالة الحكومة والميل نحو عسكرة المرحلة الانتقالية، حيث نجح العسكر في تكوين حاضنة سياسية لهم داخل الحكومة الحالية وبعض قيادات المكون المدني، بزعم فشل حمدوك في إدارة المرحلة ولابد من البحث عن دماء جديدة وما يتطلب ذلك من نسف للمرتكزات السياسية التي انطلقت المرحلة الحالية من خلالها. المتابع للمشهد بتفاصيله يلاحظ أن المواجهات الأن باتت بين مدنيين ومدنيين، فيما يكتفي الجنرالات وقواتهم المسلحة والأمنية بموقف المتفرج، المتابع للتطورات عن كثب، فيما لا يكون التدخل إلا لخدمة الأجندة وتضييق الخناق على المطالبين بتسليم السلطة للمدنيين والالتزام بالوثيقة الدستورية التي يبدوا أنها ذات قراءات مختلفة، كل يقرأها وفق هواه السياسي.
وعليه فمن المرجح وكما هو معتاد في الأنظمة الديكتاتورية أن يوظف العسكريون الورقة الأمنية الراهنة، حيث الاضطرابات والفوضى والتراشقات، لتغيير الوضعية السياسية في البلاد، ومحاولة العودة للمربع رقم واحد، من أجل تفويت الفرصة على المدنيين للاستئثار بالسلطة، لما لذلك من تهديد مباشر لمستقبل العسكر في الحكم.
المشهد إلى أين؟ الضبابية التي تخيم على المشهد الأن في ظل عدم إعلان الجيش ورئيس مجلس السيادة عن أي تفاصيل بشأن ما حدث وتصوره لما يمكن أن تكون عليه المرحلة المقبلة، سيفتح الباب على مصراعيه أمام كافة الاحتمالات التي ربما تعيد البلاد إلى الأجواء السوداوية حيث الاحتراب الأهلي وعودة نشاطات الجماعات المسلحة مرة أخرى.
القراءة الأولية لما حدث تشير إلى الانقلاب على الوثيقة الدستورية كخطوة أولى لاستمرار العسكر في الحكم وعدم تسليم المدنيين رئاسة السلطة الشهر المقبل، غير أن هذا التحرك ربما يستثير غضب التيار الداعم لإقالة حكومة حمدوك لكنه متمسك بمدنية الدولة، وهو التيار الذي يستند عليه المكون العسكري حاليًا للتصدي لأنصار الحرية والتغيير (المجلس المركزي) وعليه فمن المحتمل أن يكون هناك حكومة جديدة، في الغالب ستكون من التكنوقراط والنخب غير الحزبية، وأن تكون تحت إشراف المؤسسة العسكرية، وهو ما قد يرضي الشارع نسبيًا، وإن كان في مضمونه انقلاب عسكري ناعم بغطاء مدني ظاهري، لاسيما إن تم الوضع في الاعتبار أن الاختيار سيكون صلاحية مطلقة وحصرية للعسكريين.
كلا المكونين اليوم يراهن على الشارع الذي لم يعد موحدًا كما كان في السابق ضد الإنقاذ، احتجاجات في مواجهة احتجاجات أخرى، وحشود داعمة أمام حشود رافضة، فيما تُغلب كفة العسكر بما يمتلكونه من قوة وعتاد وقدرة على تغيير الوضع بما لديهم من إمكانيات، هذا بخلاف حالة الطوارئ المعلنة والتي ربما تحجم مسار الثوار. في الأخير.. فإن كل المؤشرات الميدانية والقرارات المعلنة تؤكد أن ما حدث انقلاب عسكري مكتمل الأركان، فيما تؤول السلطة بأكملها للعسكر وإزاحة المدنيين عن الحكم بصورة نهائية، لتبقى الساعات المقبلة مفتوحة على كافة الاحتمالات، فيما يحدد الموقف الدولي ورد فعل الشارع إزاء تلك التطورات ملامح المرحلة المقبلة بشكل كبير، فهل يعود السودان للخلف مرة أخرى أم سيكون للشعب رأي أخر؟