مقالات
الدكتورة نادية مصطفى تكتب: ”مسرح عمليات 67 وبداياته”.. ( الرسالة الأولى )
بقلم: د . نادية مصطفىلا شيئ في هذا العالم ينبثق من فراغ ، وانما من حقائق ووقائع واحداث، اقول ذلك حتي لا نحكم في قضايا باهمية ما جري في الخامس من يونيو عام ١٩٦٧، باحكام ظالمة ومتسرعة تاخذ الامور بظاهرها ولا تحاول ان تذهب الي العمق لتري ما كان يجري بداخله من خطط وترتيبات ومؤامرات في لعبة امم اكبر منا بكثير، والتي غابت حقيقتها عن علم الكثيرين او اختلطت اوراقها ببعضها الي الحد الذي تاهت الحقيقة معه، وهو ما نحاول ان ندخل اليه الآن لنقدم شهادتنا عنه والتي نتحملها امام الله اولا ثم امام ضمائرنا وشعوبنا واوطاننا من بعده.
واذا كان لكل حدث كبير نقطة بداية، فان جذور الازمة التي مهدت لحرب يونيو١٩٦٧ بدات من سوريا، وهي الازمة التي كان للاتحاد السوفيتي الدور الاكبر في تحريكها وتصعيدها والوصول بها في النهاية الي نقطة الانفجار. أما عن المسرح السوري وكيف انطلقت الازمة منه، فبإمكاننا القول انه من بين كل الانظمة العربية الراديكالية، فان النظام البعثي السوري الذي وصل الي السلطة بانقلاب عسكري في فبراير ١٩٦٦ كان اكثرها استئثارا باهتمام السوفيت. فهذا النظام الذي تزعمته قيادة ثلاثية من نورالدين الاتاسي ( رئيس الدولة ) ويوسف زعين ( رئيس الوزراء) وابراهيم ماخوس ( وزير الخارجية) كانت له توجهاته اليسارية المتطرفة ، ولذا فقد اتجه فور تسلمه السلطة الي تعزيز علاقاته بالاتحاد السوفيتي وبصورة لم تجرؤ علبها الحكومة البعثية السابقة التي اطاح بها الانقلاب.
ومنذ البداية عمد النظام السوري الجديد الي مضاعفة مساعداته العسكرية والاقتصادية لمنظمة فتح الفلسطينية الجديدة لحفزها علي تصعيد عملياتها العسكرية ضد اسرائيل، وهذه السياسة التي طبقها هذا الجناح البعثي المتطرف من اجنحة حزب البعث السوري والداعمة لمبدا العمل الفدائي المكثف ضد اسرائيل زادت بطبيعة الحال من احتمال قيام اسرائيل بالرد عليها باجراءات انتقامية عسكرية عنيفة.
وتحسبا لهذا الاحتمال الاخير ، قام رئيس الحكومة السوفيتية اليكس كوسيجين بزيارة الي مصر في مايو عام ١٩٦٦ ، لحثها مع غيرها من الدول العربية التقدمية علي الوقوف الي جانب سوريا ودعمها في نضالها ضد الامبريالية وربيبتها اسرائيل ، وقرن كوسيجين هذا الطلب بدعوته التي اطلقها من القاهرة لانشاء جبهة موحدة من الدول العربية التقدمية وفي طليعتها مصر والجزائر والعراق وسوريا للتصدي علي حد قوله لمن وصفهم بالامبرياليين والرجعيين في المنطقة.
وتعزيزا لتلك الجهود والتحركات الدبلوماسية السوفيتية الهادفة الي اقامة جبهة عربية موحدة بالصورة التي ارادوها ، جاءت زيارة رئيس الحكومة العراقية الدكتور عبد الرحمن البزاز لموسكو في يوليو ١٩٦٦ ، وهي الزيارة التي نجحت في وضع نهاية لخلافات الاتحاد السوفيتي مع النظام الحاكم في العراق حول مشكلة اضطهاده للحزب الشيوعي العراقي وللعراقيين الاكراد.. وفي مقابل ذلك، طلبت الحكومة السوفيتية من العراق الانضمام الي الجبهة المعادية للامبريالية في المنطقة العربية ، وذلك تنفيذا للخطة التي كانت احد الاعمدة الرئيسية في الاستراتيجية السوفيتية الجديدة في المنطقة العربية والتي تبنتها وراهنت عليها مجموعة الترويكا اي القيادة الثلاثية السوفيتية باقطابها الثلاثة الكبار بريجينيف وكوسيجين وبودجورني منذ تسلمها مقاليد الحكم في الكرملين قبل عامين من هذا التاريخ.
وقد نجحت الدبلوماسية السوفيتية في تحقيق هدفها الاستراتيجي الذي ظلت تراهن عليه قرب نهاية عام ١٩٦٦ عندما بدات تتبلور معالم هذه الجبهة العربية الموحدة مع التوقيع علي ميثاق الدفاع العسكري المشترك بين مصر وسوريا في نوفمبر ١٩٦٦ ، والذي علق عليه السوفيت املهم في ردع اي هجوم عسكري واسع قد تفكر اسرائيل في الاقدام عليه ضد سوريا.
بيد ان مجريات الاحداث اخذت تتطور في اتجاه معاكس لتلك التوقعات السوفيتية مع انتهاز الطرف السوري فرصة توقيعه علي ميثاق الدفاع العسكري المشترك مع مصر ليضاعف وبشكل كبير من دعمه العسكري للعمليات الفدائية الفلسطينية داخل اسرائيل ، وهو ما زاد الوضع اشتعالا علي الحدود السورية الاسرائيلية، وضاعف من احتمال نشوب حرب واسعة النطاق بين الطرفين وليس التقليل منها كما كان السوفيت ياملونه ليوفروا علي انفسهم خطر التورط العسكري المباشر الي جانب حلفائهم السوريين الجدد في اي حرب قد تندلع بين سوريا واسرائيل، وهو ما كانوا يخططون بأن تتحمل مصر المسئولية عنه بدلا منهم.. وهو ما كان واضحا كل الوضوح فيما بعد، ولولا ذلك لما كان ميثاق الدفاع العسكري المشترك بين مصر وسوريا مهما بالنسبة لهم الي هذا الحد.
باختصار، كانت هذه هي البداية التي مهدت المسرح لحدوث الازمة العنيفة التي قادت المنطقة العربية الي حرب الخامس من يونيو عام ١٩٦٧ وعلي النحو الذي سنتناوله في رسائلنا القادمة.