مقالات
0
موسم الحج .. تثقيف وتعليم
بقلم العقيد/ ياسر حسنارتبط موسم الحج من بدايات ظهوره ارتباطا وثيقا بالتثقيف والتعليم، كما ارتبط بتأصيل وترتيب التعامل الاجتماعي. بالاضافة إلى العبادة والتقرب من الله ونيل خيره وهدايته ومغفرته.
فقد تعود المسلمون منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون الحرم المكي في موسم الحج مكانا لتلقي المعرفة والتفقه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه خلال حجة الوداع قائما على التعليم والتثقيف، يُسأل فيجيب، ويتجمع حوله الناس فيبلغ المعرفة والهداية. إلاّ أن تعاليمه هذه لم تكن لتصل إلى جميع المسلمين، فدعا الناس وهو منى إلى إبلاغ المعرفة وتداولها والعمل على وصولها إلى كافة الناس، وإن المعرفة أمانة عليهم إبلاغها لأي مسلم وتلقيها من أي مسلم كان بشرط الصدق والإخلاص. ولما انتقل المسلمون إلى عرفات ألقى فيهم خطبة الوداع التي تعتبر هي أيضا مثالا للإبلاغ من الرسول المعلم إلى عامة المتلقين من المسلمين الحجيج.
تجلَّى في الحج المظهر المعجز لوحدة الأُمَّة وعظمتها وقيمها ومثلها العليا، ويورث الفرد إيجابيةً تتمثل في أخلاقه وسلوكه خاصة بعد أداء هذه الفريضة التي تنقله من طور إلى طور ومن مرحلة لأخرى، من مرحلة التمني والأمل إلى مرحلة العمل الصالح والاستكثار من أعمال البر والخير ونشر المعروف وإشاعة الإحسان، إضافة لما تترك في أعماق المسلم من ذكريات تغذي نفسه بالطمأنينة وتشبعها بالسكينة وتشعرها بالأمن وتبهجها بلذة الإيمان.
بالاضافة إلى كل ذلك فإن طرق الحج القديمة والتي كانت تتخذ دروبا وعرة والمرور بالكثير من البلدان ساهمت بشكل كبير في المزج بين الثقافات المختلفة والحضارات التنوعة، مما جعل من رحلة الحج رحلة روحانية ثقافية اجتماعية لا مثيل لها، فقد ساعدت رحلات الحج قديما على التزاوج بين الثقافات وتبادل الخبرات العلمية والأدبية بين الشعوب عن طريق حجاج بيت الله الحرام، حتى أن الأمانة العامة لسنار عاصمة الثقافة الإسلامية 2017م، أقامت مؤتمرا بعنوان ” طرق الحج في أفريقيا”، وقد ناقش المؤتمر عدد من الأوراق البحثية التي استطاعت أن تعكس الدور الذي لعبته طرق الحج في أفريقيا في الحياة الثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية من خلال العادات والتقاليد واللغات والأدب الشفاهي كالحكايات الشعبية والأهازيج التي عكست عن قرب الأثر الثقافي لهذا الطريق الهام الذي ربط أجزاء واسعة من آسيا ببعض أنحاء العالم الأخرى.
كانت قوافل الحجاج المصريين ومن رافقهم من أهل المغرب والأندلس وإفريقية تعبر شبه جزيرة سيناء حتى تصل بلدة ”أيلة” على خليج العقبة، ثم تواصل السير جنوبا إلى أن تبلغ واحة ”مدين”. وكان لحجاج مصر بعد رحلتهم من مدين طريقان أحدهما داخلي يتجه إلى المدينة ويمر بوادي القرى، وهو الأكثر استخداما خلال القرنين الأول والثاني الهجريين. أما الطريق الآخر فيسلك ساحل البحر الأحمر ويمر بعدد من المحطات أهمها عينونا، والمويلح، وضبا، والعويند، والوجه، والحوراء، ونبط، وينبع، والجار ومن الجار يتجه إلى مكة المكرمة.
وحظي طريق الحج المصري باهتمام الحكام المسلمين في الفترة الإسلامية المبكرة، حيث أقاموا عليه البرك وحفروا الآبار ، ومهدوا العقبات الصعبة ، وبنوا المساجد في بعض محطاته , فقد نظف خمارويه بن أحمد بن طولون عقبة أيلة من الحجارة. وأقيمت سبعة آبار في ضباء لخدمة الحجاج، وصفها ”العذري الأندلسي” في بداية القرن الخامس الهجري، كما بنيت مساجد على أيدي ملوك مصر، كما أقيمت بركة وقناة.
ووجدت مئات النقوش العربية على هذا الطريق نقشها الحجاج على صخور في محطاتهم على طول مسارهم تذكارا لمرورهم، وتوجد أيضا آثار معمارية ترجع لتلك الفترة بعضها على مسار الطريق الداخلي مثل ”بركة النابع” الواقعة جنوب مدينة ضباء، وبركة ”بدا”، وآبار ”بلاطة”، وبعضها الآخر على المسار الساحلي مثل بركة ” مدين”، وبركة ”الجار”، هذا فضلا عن المدن التي كانت عامرة على الطريق مثل مدين، وعينونا، والعونيد، والحوراء، والجار، والجحفة، وشغب، وبدا.
وأما آثار العصور الإسلامية الباقية على طريق المصري فنذكر منها بركة البدع ”مغائر شعيب”، ويعود تاريخ إنشائها إلى العصر المملوكي، وآثار ”المويلح” تشمل بئرين من العصر المملوكي، وقلعة ”الأزنم” التي أنشئت في عهد السلطان المملوكي محمد بن قلاوون، وجددت في عصر السلطان قنصوه الغوري، إلى جانب برك ”عنتر” التي يرجع تاريخها إلى العصر العثماني، وقلعة ”الزريب” التي أنشئت سنة 1026 هـ في العصر السلطان العثماني أحمد الأول، وبركة ”أكرا” وآبار ”نبط”، وسبيل بدر وبركتها ، وجميعها آثار أنشئت في العصر المملوكي ، وجددت ووسعت عدة مرات خلال العصر العثماني.
وإلى جانب الطريق المصري القديم للحج هناك ستة طرق أخرى لا تقل ثقافة وأهمية عن الطريق المصري وهي: (طريق الكوفة / مكة المكرمة، وطريق البصرة / مكة المكرمة، الطريق الشامي، طريق الحاج اليمني، الطريق العماني، وطريق حج البحرين – اليمامة – مكة المكرمة).
رحلات الحج تعد من أقوى صور التواصل وفرصة للالتقاء والتبادل الفكري والثقافي والتجاري، وفرصة للاحتكاك المباشر بين المسلمين والتعرف على أحوالهم المختلفة، وقد قال الله تعالى في شأن الحج (وأذِّن في الناسِ بالحج يأتوك رجالاً وعلى كلِّ ضامرٍ يأتين من كلِ فجِّ عميق) الآية27، وتتحدث المصادر التاريخية عن مواكب الحجيج السودانية إلى الأراضي المقدسة وأشارت إلى أنه ومنذ تغلغل الإسلام في السودان الغربي حرص سلاطين وملوك الدويلات الإسلامية على تنظيم قوافل الحج السنوية إلى الأراضي المقدسة، وقد أضحت مناسبة لها طعمها الخاص لما لها من مكانة لدى الحكام والرعية معاً، عبر مختلف مراحل تاريخ ممالك السودان الغربي الإسلامي. وقد أسهمت هذه الرحلات إلى أطهر البقاع على وجه الأرض في تمتين العلاقات الثقافية والعلمية بين السودان الغربي والشمال الإفريقي، والمشرق الإسلامي، حيث كان كبار العلماء من السودان الغربي في طريقهم إلى الحج وعودتهم يقيمون فترة في المراكز الحضارية في الشمال الأفريقي وخاصة في مصر حيث يدرسون على يد أبرز علماء الأزهر ويقوم بعضهم بنشر علمه في تلك المراكز والعمل بالتدريس.
وبغض النظر عن كون الحج ركنا أساسيا من أركان الإسلام، فإنه مناسبة اجتماعية ثقافية وسوق اقتصادية وعنصر مهم في حركة الناس وتنقلهم. وكان ومازال موسم الحج موسما دينيا وثقافيا واقتصاديا وحتى سياسيا مهم في كل أنحاء المعمورة.. وكل عام وكل مسلمي العالم بخير.. حج مبرور وذنب مغفور.