دين
صفة من صفات عباد الرحمن فيها سر استقرارك النفسي
محمود ابو السعودقال الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء ومفتي الجمهورية السابق لأنه في رحاب السور القرآنيّة، نجد الكثير من الدروس التي تعزز مفهوم التوازن والاعتدال في حياتنا، ومن بين هذه الدروس، نجد صورة مشرقة لعباد الرحمن الذين يتمتعون بصفتي الاعتدال والتوازن في كل جوانب حياتهم، ومن أبرز مظاهر هذه الفضائل التي يذكرها القرآن الكريم، نجد موقفهم من الإنفاق، حيث ورد في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا" [الفرقان: 67]، هذه الآية تبرز أهمية التوازن في الحياة، سواء في المواقف المالية أو في التعامل مع القضايا الأخرى التي تقتضي الاعتدال.
الوسطية: صفة الأمة الإسلامية
وأكد جمعة أن التوازن ليس مجرد قيمة أخلاقية أو سلوكية، بل هو أحد أهم معالم هذه الأمة، التي خصها الله سبحانه وتعالى بالوسطية، حيث قال في كتابه الكريم: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" [البقرة: 143]. وقد عُرِفَت هذه الأمة بالتوازن في جميع جوانب حياتها، فتاريخها حافل بالشواهد على دورها في نشر قيم العدل والمساواة والتوازن بين الدنيا والآخرة، بين الإيمان والعمل.
وقد يوضح ابن كثير في تفسيره للآية أن الوسطية هنا تعني الخيار الأجود والأفضل، ويقول: "كما يقال: قريش وسط العرب نسبًا ودارًا، أي خيرهم". لذلك، فإن الوسطية التي تميز الأمة الإسلامية في قيمها ومناهجها تعدّ أساسًا لنشوء أمة معتدلة ومتوازنة في كل شيء، ما يميزها عن غيرها من الأمم.
التوازن في الإنفاق: من صفات عباد الرحمن
ووضح جمعة أنه من أبرز صور التوازن التي تمثلها هذه الأمة، نجد التوازن في الإنفاق، الذي يوازن بين التقتير والإسراف. إن القرآن الكريم يصور هذا التوازن كأحد صفات عباد الرحمن الذين أثنى عليهم الله، حيث إنهم لا يُسرفون في المال ولا يقتّرون عليه، بل يوازنونه بما يتناسب مع حاجاتهم وظروفهم.
هذه الصورة تبرز أهمية التوازن في كافة شؤون الحياة اليومية. فكما يحرص المؤمن على التوازن في إنفاقه، يحرص كذلك على التوازن في القول والعمل، ما يعكس قوة العقل وصدق النية. هذا التوازن الذي يوازن بين رغبات النفس واحتياجات المجتمع، يساعد في بناء شخصية متكاملة تعيش بسلام داخلي وتؤثر إيجابيًا في محيطها.
الوسطية: منهج حياة وتفكير
وأضاف جمعة أن الوسطية ليست مجرد خيار أخلاقي، بل هي منهج حياة وفكر. إنها فلسفة تنطوي على الاعتدال والتفكير المستقيم في كل شيء، سواء في المواقف الاجتماعية أو السياسية أو الفكرية. فالمسلم الذي يتبنى هذا الفكر يعيش حياة مليئة بالإنصاف والتوازن، بعيدًا عن الإفراط أو التفريط، ويعمل على تطبيق هذه المبادئ في تعاملاته اليومية.
منهج الوسطية ليس محدودًا فقط في المعاملات المادية، بل يتجاوز ذلك ليشمل التفكير العلمي والعقلي، حيث ينظر المسلم إلى قضايا الحياة بعقلية منفتحة وحكيمة، بعيدة عن الانطباعات السطحية والآراء المتعصبة. هذا التوازن العقلي يساعد المسلم على اتخاذ قرارات صائبة تؤدي إلى استقرار المجتمع وتقدمه.
الحكمة: جوهر التوازن
وتابع جمعة أنه كما التوازن يُعتبر من صفات عباد الرحمن، فهو مرتبط أيضًا بالحكمة، التي هي جوهر العقل الراشد والتفكير السليم. قال تعالى: "يُؤْتِى الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتِ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ" [البقرة: 269].
الحكمة هي قدرة الفرد على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب، وهي أساس البناء الفكري الذي يضمن التوازن الاجتماعي والاقتصادي. ويمثل هذا النوع من الحكمة أعلى درجات الاعتدال والتوازن في الحياة، حيث يسعى المؤمن لتحقيق مصلحة نفسه ومجتمعه دون تفريط أو تطرف.
التوازن في الإسلام ليس مجرد مبدأ أخلاقي بل هو منهج حياة، وهو سبيل لتحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي. من خلاله، يتعلم المسلم كيفية الحفاظ على الاستقرار بين الإفراط والتفريط، ويطبق هذا التوازن في جميع جوانب حياته. والوسطية هي سمة تميز الأمة الإسلامية، وتجعلها أمة شهادات على الناس، باعتدالها ووسطيتها في جميع شؤونها.