مقالات
هانم داود تكتب: لغة الروح
لغة الروح ترانيم الصمت وترجمان الشعور
في ملكوت الكيان، وحيث تكف الألسن عن الحركة، وتتجمد الكلمات على الشفاه، تولدُ لغة أزلية لا تعرفُ الحروف، ولا تخضع لقواعد النحو أو الصرف. إنها لغة الروح، ذلك الشعاع النوراني الذي يربطُ بين القلوب دون وسيط، والهمس الخفي الذي يجوب آفاق المعنى قبل أن يرتد الطرف.
يا رفيق الروح، لا تطلب مني حديثاً، بل أنصت إلى سكينتي. ففي الصمتِ مخبأٌ لكل ما عجزت عنه القواميس، وفي اهتزازِ الأهداب سر لا يدركه إلا من اغتسلَ بماءِ الصدق. نحنُ لا نتحدث لنفهم، بل نصمتُ لنتصل، فإذا ما اهتزت أوتار قلبك لآلامي، أو رقصت نبضاتك لسروري، فاعلم أن أرواحنا قد أتقنت اللغةَ الأزلية، لغةَ الروح التي لا تموت.
حِيْنَمَا تَتهَجى الأَروَاح عِطْرَهَا
ثمةَ لغةٌ لا تكتب بالريشة، ولا تُنطق بالشفتين، هي أبجديةُ النور التي تتسلل من مسامِ الوجدان كما يتسللُ عبير الياسمينِ في ليلة شاعريه مقمرة.
سيمفونية الصمت العالية
هل تساءلت يوماً كيف يفهم المحب وجعَ حبيبه دون أن يشكو؟ وكيف تدرك الأم ألالام طفلها وهو في المهد صامت؟ إنها ليست فراسةً فحسب، بل هي موسيقى الروح التي تعزف ألحانها على أوتار الوجدان.
ليست لغة الروح مجرد تفاهم، بل هي اتحادُ الألحان. هي كالعطر الذي يفوحُ من الزهرة؛ هل رأيت زهرةً تشرح للنسيم كيف تفوح؟ أو نهراً يفسر للضفافِ سر اندفاعه؟ هكذا هي الأرواح حين تتلاقى، تتعارفُ بلا صكوك، وتتآلف بلا مقدمات، وتتحاورُ في صمتٍ هو أبلغُ من ضجيج ألفِ خطيب.
الروح مرآة صقيلة: تعكسُ ما بداخلنا من فيض المشاعر، فتبدو في العيون بريقاً، وفي الملامح طمأنينة أو قلقاً.
الكلمات أحياناً تكون قيودا. بينما الروح طائر طليق، يرفرفُ بجناحي الصدق والإخلاص، فيصل إلى المقصد بأقصر الطرق.
بلاغةُ العين.. رسولُ الروح الأوفى
يقولون إن العين مرآة الروح، وفي لغة الروح تُعد العين هي الخطيب المفوه الذي لا يلحن أبداً. ففي نظرةٍ واحدة قد تجتمعُ دواوين الشعر، وقصص الحنين، وعتاب السنين.
لغةُ الروح هي تلك اللغة التي لا تحتاجُ إلى مجمّلاتٍ لغوية، فصدقها هو بلاغتها، وعمقها هو إعجازها.
عندما تتلاقى الأرواح
إن أرقى تجليات لغة الروح تكمن في ذلك التآلف العجيب الذي ذكره النبي ﷺ حين قال: الأرواحُ جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف". هذا الائتلاف هو حوارٌ صامت بين ذبذبات القلوب، حيث تشعر بأنك تعرفُ شخصاً ما منذُ الأزل رغم أنك لم تلتقِ به إلا منذُ ثوان.
الروحُ كالبحر، وما الكلمات إلا زبدٌ يطفو على السطح، أما الدررُ المكنونة فلا تُستخرج إلا بالغوص في أعماق السكون.
تنطق الجوارح بلسان الروح، فيصبح لمس الأيدي دعاءً، وابتسامة الثغرِ قصيدةَ حب.
العودة إلى الذات
إن لغةَ الروح هي العروة الوثقى التي تربطنا بالجمال، وبالخالق، وبالآخرين. هي لغةٌ تنزهت عن ضجيج العالم، لتسكن في محرابِ الصفاء. فمن أراد أن يتعلمها، فعليهِ أن يُنصتَ لقلبه، ويُطهرَ سريرته، ويتركَ لروحهِ العنان لتقولَ ما عجزَ عنه البيان.