فن وثقافة
الدكتور/ عابد الوافي يقدم قراءة نقدية لرواية ”طعم الخرس”
كتب: محمد شبليقول الدكتور/ عابد الوافي , الاستاذ بجامعة مستغانم/ الجزائر في قراءته النقدية لرواية "طعم الخرس" للكاتب المصري الدكتور/ يحي خير الله: تندرج رواية "طعم الخرس" ضمن محاولات التجريب الروائي. وقد خرج الكاتب هنا عما ألفه العرب في رواياتهم المعتمدة على مقام سردي أساسي واحد، تاركا مساحة كبيرة لشخصياته للتحاور وأحيانا للتجادل ليتقمص هو دور الراوي الخارجي، ساردا بذلك حكايات متقاطعة ومتداخلة، تحركها شخصيات عن طريق حوارات درامية أو الجدال.هذا ما يضفي عليها طابع المشاهد واللوحات الدرامية أو بمعنى آخر يجعلها أقرب إلى الدراما المرئية.
وتعتبر بداية الرواية بمثابة لوحة استهلالية تلخص ما يدور بداخلها وتشد القارئ لاستكمال قراءتها. وللتنويه فإن الباحثة الأكاديمية صبحة أحمد علقم – في كتابها "تداخل الأجناس الأدبية في الرواية العربيةِ"- أطلقت على هذا النمط الروائي مصطلح ‘المسرواية’، أي عندما تلجأ المسرحية إلى الرواية.
اختار د. يحي خير الله في روايته "طعم الخرس" أسلوب الحلم منطلقا من معطيات فرويدية لأن كل فرد ينطوي في داخله على قوى ومشاعر ورغبات تملي عليه أفعاله. وبالتالي لابد أن تكون الأحلام لغة اللاوعي لدى الحالم وفسحة للتعبير عن المكبوتات ، وتحقيق الأشياء والمقاصد.وهذا ما تجلى في المشهد الأخير من خلال؛
"الدكتور رامز: بس أنا بشوف الحلم ده بقالي سنه" ............
"الضابط: البيه كان بيحلم .. ومن يومين كان بيقول إن الحلم أساس الواقع .. يعني عايز لعب العيال يقلب لجد وتبقى ثورة .. ثورة يعني إسقاط النظام."
ويبدو أن السارد يملك رؤية سليمة ونظرة اجتماعية ثاقبة بالإضافة إلى أدواته الفنية التي يرصد بها حركة المجتمع العربي والمصري خاصة ويجسد من خلالها الإرهاصات الدقيقة بإيحاء المستقبل قبل حدوثه في إشارة إلى كشف المخطط الإسرائيلي الأمريكي (المؤامرة).
و يعالج الكاتب من خلال الرواية قضايا واقعية كونها تطرح علينا الواقع المصري بداية من حرب النكسة إلى غاية الربيع العربي برؤية قريبة إلى الواقع ومن ثمة إلى العقل و بشكل متميز ومشوق بحيث قد يجد القارئ نفسه في الكثير من الأحايين تحت ضغط نفسي وعصبي رهيب إلى درجة أن يصاب هو الآخر بالخرس. كما أنها تحاول الربط بين الماضي والحاضر.
وهذا ما يتجلى للقارئ من خلال رمزية المقاربة بين نهاية الخياط الشحات ومنتصر.الأول شارك في الثورة ضد العدو الخارجي ومات وهو يصارع المرض، أما الثاني فقد لقي حتفه بسبب الثورة الداخلية الناتجة عن الأفكار الدينية المتطرفة وعجز الحكومة على توفير الأمن الداخلي. فكلاهما، ورغم دفعهما لضريبة من أجل الدفاع عن الوطن، لم يلقيا الاهتمام اللائق والحماية اللازمة في ظل تجاهل و عجز القائمين على تسيير البلد ودفنت آمالهما مثلما دفنت آمال أم أيوب وأبوها.
ولقد أبدى الروائي د. يحي خير الله حنكة وبراعة عاليتين في صياغة القصة مما جعلها متكاملة فنيا وتقنيا، ويظهر ذلك جليا من خلال سرده المتين للأحداث.تنوعت اللغة بين العامية والفصحى، حيث جاءت الحوارات بالعامية أما الفصحى فقد أُعتمدها الكاتب في مواطن السرد الخارجي وقد يعود السبب الرئيسي لاعتماد العامية لكون الأحداث تدور في بيئة مصرية وبالتالي لم يكن استعمالها مجاني.
والواضح أنّه نجح في خلق تجانس في مستويات هذه اللغة المزيج، وتمكن من خلالها أن يضفي مسحة جمالية على النص، وبعيدا عن أي نشاز لغوي يمكن أن يؤثر على البناء اللغوي العام للنص. بالإضافة إلى أنها لغة تجمع بين الإمتاع واليسر وتغص في الشاعرية خاصة عندما تعبر عن اختلاجات الذات أو الوصف الدقيق للمشاهد والأحداث.
كانت الأحداث متسلسلة ومتشعبة ضمنت تنامي الحبكة القصصية، استطاع الروائي أن يرسم من خلالها صورة مكانية زمانية عفوية ساهمت في إضفاء ثراء فني على الرواية، حيث جرت الأحداث في بيئة مصرية وهي بيئة تنقسم إلى بيئة فقيرة جدا قد يصبح فيها الحصول على فنجان قهوة بمثابة حلم وأخرى نوعا ما غنية تمثلها أصحاب المال والسلطة (شيخ البلد، أصحاب النفوذ...). كما دارت الأحداث أيضا في أمكنة متنوعة منها ما يتعلق ببيئة مصرية ريفية وأخرى حضرية.
وفيما يخص الزمن العام للأحداث فيمتد من حرب أكتوبر إلى غاية بداية الثورة الأخيرة. أما القطار الذي كان يركبه الدكتور رامز أثناء ذهابه ورجوعه من العمل فيعكس رحلته في الزمن بين الماضي والحاضر ودليل ذلك هو حالة النوم داخل القطار وهو وسيلة وجيهة للسفر عبر الزمن.
جاءت الرواية حبلى بالإيحاءات والرموز التي تستوجب من القارئ الوقوف عندها والتمعّن فيها لفك ألغازها ومدلولاتها.بداية من العنوان، الشخصيات، المكان ، الزمان والصور التعبيرية. فثورة الكتب والأدوية ما هي إلى إشارة إلى الرغبة في تغيير الواقع المعاش. كما طرح الراوي مشكل صعوبة تحديد مفهوم الثورة بالنسبة لأطياف المجتمع.
ولعل الهاجس الإستشرافي الذي بدأ به الروائي روايته عبر الإهداء ما هو إلا دعوة صريحة لكسر قيود الصمت على القهر،الفقر والألم، والثورة على أشكال الفساد الديني والسياسي والاجتماعي.
كانت شخصيات الرواية غامضة نوعا ما، حيث حاول الروائي أن يربط بين الوجود الواقعي للشخصيات والدلالة الرمزية العامة. فهناك إشارة إلى محاولة ربط بين شخصية أم أيوب والوطن الأم مصر ذلك لما تمتلكه من صبر وعزيمة، وكذلك سهرها على راحة وأمن وسعادة أهل بلدتها.فقد كانت السند والمأوى والمعيل للفقراء واليتامى والمساكين.
أما الدكتور رامز فهو رمز المواطن الصالح ، الواعي والمثقف الذي يكشف خيوط المؤامرة الإسرائيلية الأمريكية. ولعل شخصية الخياط الشحّات ما هي إلى رمز لؤلئك الوطنيين الذين لم يحظوا بشروط الحياة الرغيدة رغم ما قدموه من تضحيات في سبيل أمن واستقرار مصر الحبيبة، فقد عاش فقيرا ومات فقيرا. وشخصية منصور رمز المواطن الذي يقف في وجه الظلم والاستبداد وهو كذلك الأمل الذي طالما علق عليه كل المصريين آمالهم في حرب أكتوبر ولازال أملهم في تغيير الأوضاع الراهنة.
أما شخصية منتصر فترمز إلى ذلك المواطن الفذ الشجاع الذي دفع حياته من أجل الذود عن وطنه ومن أجل أن يحيا الجبناء. ولعل حسناء هي مصر الفتية أو مصر المستقبل في أبهى حلة. ويلمح الروائي أن أحمد هو رمز الضابط الطيب، الواعي بمهامه وبما يجري في البلد.
جعل الكاتب 'الخرس' و'الثورة' المحاور الرئيسية التي تدور حولها الفكرة، كما كانت بمثابة الشيفرة التي تحرك الشخصيات أو المسار الذي تتحرك فوقه الأحداث التي اشتملت على عدة قيم منها:-
- قيم اجتماعية: تمثلت في حالة الفقر والحرمان التي عانى منها الخياط و عائلته، وكذلك حالة التكافل بين أفراد المجتمع المصري، تجلت في توفير أم أيوب الإطعام والمسكن لعائلة الخياط، وكذلك إعالتها لكل من نحمده وحسناء، وتوفير القهوة لأهل الحي.
بالإضافة إلى موقف التآزر الذي أبداه أهل القرية أثناء اعتراض شيخ البلد على دفن جثة الشحات في المقبرة. وهناك أيضا إشارة إلى الصفات التي يتمتع بها المواطن المصري حتى في أحلك المواقف، ومثال ذلك تنبيه الدكتور للضابط أحمد :" يا أحمد الثوار هيطلبوا بتغيير النظام بشكل سلمي.. لكن فيه جماعة عايزة اسقاط الدولة بالقوة .. الفرق كبير بين الإتنين خلي بالك ."
- قيم أخلاقية: تمثلت في صفات الطمع لدى الدكتور، عبد الشافي التمرجي وقسوة قلبه، بالإضافة إلى تبنيه لأسلوب النفاق من أجل الحصول على فنجان قهوة. أشار الكاتب أيضا إلى حالة الانحلال الخلقي لدى الجيل الجديد؛ ومنها موقف الانتقام وقلة الاحترام التي أبداها الشاب صفوت لخاله الحاج خليفة، ومعاملة الشباب السيئة للرجل المسن في ميدان التحرير.
- قيم سياسية: كان هناك نقد لاذع وتهكمي للأوضاع السياسية المتدنية في مصر ومجتمعاتنا العربية و للحكام الذين يتولوا أمرنا سياسيا ودينيا. حيث أشار الكاتب إلى كيفية تحكم أصحاب النفوذ والمال في مصير المغلوب على أمرهم (طرد شيخ البلد لعائلة الشحات إلى الشارع بلا رحمة، موت منتصر في ظل تهاون القادة العسكريين والسياسيين، وكذلك تسلط الحكومة التي تبنت سياسة الترهيب التي جعلت أهل البلد كلهم ملتزمون بالخرس).
" - إنت لسه بتكابر .. أفعالك وأفعال أمثالك هي إللي وصلتنا لكده ..إنت ليه مش قادر تفهم إن
القوة هدفها تحقيق العدل مش ظلم الناس .. وليه قبضت عليه بالشكل المهين ده .
- أنا عبد المأمور كنت بنفذ القانون .
- أي قانون إللي إنت بتتكلم عنه .. ما الضابط أحمد زميلك بينفذ القانون بس بأدب واحترام .
- قيم دينية: عالج الروائي ظاهرة التطرف الديني، إذ أصبح كل شخص جاهل يلبس قميصا ويسدل لحية يصدر فتاوى ويطلق أحكاما دينية مدمرة للتأثير على عقول الناس، الأمر الذي جرّ المجتمعات العربية إلى الفتنة و الخراب و الحروب الأهلية.
بعد الرحلة الطويلة في عوالم هذه الرواية انتظرت أن يضع الكاتب حاجزا لطرح الوقائع بتحقيق "الثورة وتغيير النظام"، إلا أنه -بذكاء ودراية- أدخل عنصر المباغتة لكسر هذا الأفق، ليختار لنفسه موقفا آخر يتفق وتطلعاته واهتماماته ونظرته إلى المجتمع وتقييمه للوقائع والأحداث (من خلال تغييره لمسار الثورة ) "وظل الحلم يكبر إلّا أن فئة ضالة أرادت أن تحوّل الحلم لكابوس ، اندسوا بين القلوب الطاهرة العامرة بحب الوطن مستغلين براءتهم وطهر أحلامهم ليشعلوا نار الحقد والكره تنفيذاً لمخطط مدروس وهو إشاعة الفوضى بحرق أقسام الشرطة لإسقاط الدولة لا النظام، الثوار كانوا يريدون إسقاط النظام أما تلك الفئة الضالة كانت تريد إسقاط الدولة والفتك بكل من يرتدي زياً عسكرياً، فهم كالخفافيش تعشق الخراب ولا تظهر إلا في الظلام".