«الحب الضائع» ... بقلم : د محمد جمعة

رئيس مجلس الإدارة:محمود علىرئيس التحرير: شريف سليمان
وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر يناهز 45 عاما عودة الدوريات الأوروبية بعد التوقف الدولي.. الإثارة تشتعل مجددًا موعد مباراة منتخب الشباب أمام تونس في تصفيات شمال إفريقيا الأوقاف: قافلة دعوية للأئمة والواعظات ولقاء الأطفال بالدقهلية موعد مباراة الزمالك والمصري بالدوري الممتاز.. القنوات الناقلة العثور على جثة ربة منزل وطفلها بأبو النمرس إخلاء البوابة الجنوبية لمطار جاتويك في لندن على خلفية حدث أمني قوات روسيا تتقدم شرق أوكرانيا استشهاد 3 مسعفين في غارة إسرائيلية جنوب لبنان حركة الحاويات في ميناء دمياط: 611 حاوية مكافئة و 368 واردة اتحاد الكرة يضع مع الهيئة الوطنية للإعلام قواعد عمل المخرجين والمصورين في المباريات الأوراق المطلوبة لتوصيل الغاز للمنازل بدون مقدم أو فوائد

مقالات

«الحب الضائع» ... بقلم : د محمد جمعة

الحب الضائع
الحب الضائع

لفت نظري جلوسها منزوية على كرسي تحت شجرة قريبا من الكافتيريا واضعة ساق علي ساق ونسمات الهواء في بداية فصل الشتاء تداعب خصلات شعرها الأسود فيقبل وجنتيها يمينا تارة ويسارا تارة محتضنا جبينها الصغير محاولا عبور جسور نظارتها السوداء التي تخفي كثيرا من ملامح وجهها الرقيق.

جلست تدخن سيجارة أخرجتها من علبة سجائر فاخرة وكانت في كل مرة تأخذ نفسا عميقا لدرجة انى لاحظت تأوهات نهديها من شدة تألمها إثناء التدخين وكانت تارة ترشف قطرات من فنجان القهوة حاملة الفنجان بيدها النحيلة وكدت أشفق عليها من حمل هذا الفنجان لرقتها وهدوئها كانت قدماها تململ بين الفينة والأخري تستبدلهما لتريح أحداها الأخري وحين أحست أنى ارقبها استدارت قليلا لتشعرني بالخجل مما أقوم به من تلصص عليها فتسرب الي شعور بالخجل واكتفيت أن استرق النظرات من حين لأخر

وخلال إحدى محاولاتي التى جاهدت ان تكون نظرتي غير مباشرة فاجئتنى بابتسامة رقيقة من شفتيها الورديتين الرائعتين فلم اصدق نفسي ولم اصدق ان هذه الابتسامة لي فاصطنعت وقوع الجريدة من يدى لأنظر حولي واستكشف إن كانت تلك الابتسامة لي أم لأحد غيري فالكافتيريا بالنادي ملائ بالأعضاء وصوت الأطفال وضحكاتهم يملأ المكان فاصطنعت ابتسامة مماثلة وجهتها نحوها راجيا ألا يكون ردها القاسي أن تشيح وجهها العذب الرقيق بعيدا عنى.

وكانت المفاجأة فإذا بطفل صغير ملائكي يجري نحوها ليأخذ منها بعضا من الحلوى فزادت ابتسامتها كلما دنا الطفل منها وأضاء وجهها الحزين نورا خلف ضحكتها لهذا الطفل الذي احتضنته وقبلته علي جبينه قبلة وقعت بقلبي وكأنها وضعتها علي شرياني التاجي وطبطبت عليه بيدها الرقيقة بعد أن اخفت سيجارتها منه وطلبت منه أن يعود للعب وأثناء عودته مسرعا من أمامى نظر إلي فوقع أرضا فهممت لأساعده علي النهوض ونظرت للفتى الذي ورث وجها رقيقا جميلا كوجه أمه وقبلته علي جبينه وكأن القدر ساقه الي لأرتوى بهذه القبلة من موضع قبلتها.

ودار في ذهني حديثا طويلا ومشاعر كثيرة ودون ان ادري سمعت صوتا عذبا شجيا فيه مسحة الحزن تشكرني فأثرت الصمت لأنى كنت في عالم اخر لا ادري ماذا أقول لها ولكني استجمعت بعضا من شجاعتي وطلبت منها بعد أن استجمعت قوتي ولملمت أشلائي المبعثرة بعد ان نهض الصغير بين يدينا وجري قليلا لمكان لعبه القريب من طاولتي.

فعرضت عليها ان تشاركني الطاولة لتصبح قريبة منه فأبدت موافقتها بابتسامة حزينة رقيقة لم اشهدها من قبل ودار في داخلي حوار طويل أثناء ذهابها لتجلب إغراضها من جلستها الأولي ودارت أسئلة كثيرة حولها لم أجد لحزنها سببا في راسي فهى ما زالت شابة وجميلة وتمتع بمظهر يدل علي السعة والثراء ولديها هذا الطفل الجميل الذي لم يتجاوز عامه الثالث بعد فلماذا هذا الحزن الشديد الذي يرسم عليها علامات اليأس والألم ولم يوقظني سوى صوت مفاتيح سيارتها وهى تضعها على الطاولة فابتسمت لها وأشرت لها بالجلوس وفاجئتنى أزيك يا أستاذ محمود فاندهشت كيف عرفت اسمي ولم اراها من قبل لانني قليل التطرق للنادى ولم يسعدني حظى ان التقي بهذه الوردة الرقيقة.

بمجرد ان نطقت باسمي اهتزت مشاعري كيف عرفتى اسمي ؟ سؤال طرحته عليها في عجالة متعجبا انها تعرفنى قالت بصوتها المبحوح الحزين حضرتك معروف لناس كتير بحكم ادارتك لجمعية لرعاية الايتام وإنها كانت تتردد علي هذه الجمعية لتقديم المساعدة للأيتام فابتسمت لها وشكرت لها صنيعها متمنيا لها العطاء في هذا المجال وهو رعاية الأيتام وأحسست من تنهداتها وحشرجة صوتها ان قلبها يبكى حتى سمعت انينها فسارعت بسؤالها لماذا تبكى فرفعت نظارتها السوداء لتمسح نهر من الدموع قد سال علي وجنتيها وهى تنظر لطفلها الصغير ولكني ابحرت بعيدا في زرقة عينيها فاصبحت كانى في قارب تلاطمني الأمواج بلا مجداف وبلا شراع وزادت دموعها وبكاؤها وانا تائه في اعماق عينيها الزرقاوين الجميلتين ولم يخطر ببالي يوما ان اري مثل هذه العيون الجميلة.

ولكنى استدركت حالي طالبا منها ان تهدأ وتحكي لي عن سبب بكائها وحزنها الشديدو تنهدت حتي ظننت انها لن تحكي شيئا ولكن هذه التنهيدة الطويلة كانت تسترجع ذكريات الحب الضائع وحكاية عمرها ثلاثين عاما هي عمر هذه الفاتنة الحزينة.

وبدأت تسرد قصتها أنا ولدت وحيدة لأب مصري وأم فرنسية لقد هاجر أبي من مصر منذ ثلاثين عاما ولم يعد إلا قبل أربعة أعوام عندما طلب يدي ابن احد العاملين بالقنصلية المصرية وكان يعمل ضابطا بالحرس الخاص ويتنقل كثيرا مع القيادة السياسية ورآني في احد المناسبات التي جمعتنا وأعحب بي وتقدم لأبي بعد أن علم إني مصرية وكان أبي حريصا علي أن يعلمني اللغة العربية وتاريخ مصر وحضارة المصريين حتى أنى كنت كثيرا ما اشتاق للعودة لمصر ولكن ما أباح لي أبي به من انه هارب من مشكلة ثأر لا دخل له بها يجعله لا يستطيع العودة إلي مصر بعد اتساع دائرة القتل بين العائلتين الكبيرتين حتى انه لم يبقي منهما سوى أبي الهارب وأحد أفراد العائلة الأخرى ولا اعلم هل ما زال علي قيد الحياة وبعد أن عدنا إلي مصر أصاب أمي مرض خطير بالمخ وكان لابد لأبي السفر للصين حيث نصحه الأطباء وأثناء الرحلة سقطت بهم الطائرة في المحيط ولم يعثر لها علي اثر

وكان زوجي هو الوحيد المتبقي لي في هذه الدنيا هو الأب والأخ والصديق والزوج فكان كثيرا ما يحاول اسعادى بكل الطرق وكان يدير مجموعة الشركات التي أسسها أبي بعد عودته من الهجرة إلى جانب عمله بالشرطة حتى رزقنا الله بهذا الطفل الذي أعاد لنا الحياة ويلعب القدر دوره وافقد حبيبي في أحد المهام ومات شهيد الواجب تاركا هذا الطفل يسألني أين أبى ولا أجد إجابة

ومنذ 6 أشهر لاحظت دوار برأسي فراجعت احد المراكز الصحية واتضحت الفحوص أني ورثت هذا المرض اللعين عن أمي وانه من المقدر لي أن أعيش عام علي الأكثر حيث يعجز العلم عن علاج مثل حالتي حاليا وأنا ألان مصدومة وخائفة علي مستقبل طفلي الصغير

كانت تحكى حكايتها وترتشف قطرات من فنجان القهوة تارة وتأخذ نفسا عميقا من سيجارتها يعقبه زفيرا طويلا كأنها تعد الأنفاس حتى تأتى لحظتها فسرحت قليلا وأخذت انظر حولي للأسر سعيدة بأولادها وتعلوا النكات والضحكات في إرجاء المكان لا يقطعه سوى صراخ طفل وقع أثناء اللعب فتألم وبكى ويهرول الجميع نحوه ليساعدوه وكيف أن هذه الشابة البائسة تمر بكل هذه الماسي فيتقطع قلبها مرة لفقدان والديها ومرة بفقدان زوجها وهى الآن تنتظر فقدان طفلها بالمرض اللعين الذي أصابها

حاولت أن أواسيها ومددت يدي لأربت علي يدها فإذا بي اسمع صفارة الحارس وهو يطبطب علي كتفي اصحي يا باشا النادي هيقفل فلملمت أوراقي ووضعت القلم في سترتي وشكرته وانطلقت نحو موقف السيارات لأعود لبيتي.